- youyou17
عدد الرسائل : 2077
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 12/05/2009
إرسال موسى لفرعون وقومه
الإثنين 24 أغسطس 2009, 18:40
قال الله تعالى : " فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين " .
وقال في النمل : " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان
الله رب العالمين " أي سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد " يا
موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم " .
وقال في سورة طه : " فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك
إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا
إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها
لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى
" .
قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف : لما قصد موسى إلى تلك النار
التي رآها فانتهى إليها ، وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج وكل ما لتلك
النار في اضطرام ، وكل ما لخضرة تلك الضجرة في ازدياد . فوقف متعجباً .
وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه ، كما قال تعالى : " وما
كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين " وكان
موسى في واد اسمه طوى فكان موسى مستقبل القبلة ، وتلك الشجرة عن يمينه من
ناحية الغرب ، فناداه ربه بالواد المقدس طوي ، فأمر أولاً بخلع نعليه
تعظيماً وتكريماً وتوقيراً لتلك البقعة المباركة . ولا سيما في تلك الليلة
المباركة .
وعند أهل الكتاب : أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور ، مهابة له وخوفاً على بصره .
ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلاً له : " إني أنا الله رب العالمين " " إنني
أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " أي أنا رب العالمين
الذي لا إله إلا هو ، الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له .
ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار ، و إنما الدار الباقية يوم
القيامة . التي لا بد من كونها ووجودها : " لتجزى كل نفس بما تسعى " أي من
خير وشر ، وحضه وحثه على العمل لها ، ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصي
مولاه واتبع هواه ، ثم قال مخاطباً ومؤانساً ومبيناً له أنه القادر على كل
شيء ، والذي يقول للشيء كن فيكون : " وما تلك بيمينك يا موسى " أي أما هذه
عصاك التي تعرفها منذ صحبتها ؟ أي بلى هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها ،
" قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى " .
وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول لشيء كن فيكون ، وأنه الفعال بالإختيار .
وعند أهل الكتاب : أنه سأل برهاناً صادقاً على صدقه عند من يكذبه من أهل
مصر ، فقال له الرب عز وجل : ما هذه التي في يدك ؟ قال : عصاي ، قال :
ألقها إلى الأرض " فألقاها فإذا هي حية تسعى " فهرب موسى من قدامها . فأمر
الرب عز وجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها ، فلما استمكن منها ارتدت عصا في
يده .
وقد قال الله تعالى في الآية الآخرى : " وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز
كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب " أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة
وأنياب تصك ، وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان ، وهو ضرب من الحيات يقال له
: الجان والجنان ، وهو لطيف ولكن سريع الإضطراب والحركة جداً ، فهذه جمعت
الضخامة والسرعة الشديدة . فلما عاينها موسى عليه السلام : " ولى مدبرا "
أي هارباً منها ، لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك " ولم يعقب " أي ولم يلتفت
، فناداه ربه قائلاً له : " يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين " .
فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها " قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها
الأولى " فيقال إنه هابها شديداً ، فوضع يده في كم مدرعته . ثم وضع يده في
وسط فمها . وعند أهل الكتاب : أمسك بذنبها . فلما استمكن منها إذا هي قد
عادت كما كانت عصا ذات شعبتين ، فسبحان القدير العظيم . رب المشرقين
والمغربين !
ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه ، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر
بياضاً من غير سوء ، أي من غير برص ولا بهق ، ولهذا قال : " اسلك يدك في
جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب " قيل معناه : إذا
حفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك .
وهذا وإن كان خاصاً به ، إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الإقتداء بالأنبياء .
وقال في سورة النمل : " وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع
آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين " أي هاتان الآيتان وهما :
العصا واليد ، هما البرهانان المشار إليهما في قوله : " فذانك برهانان من
ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين " ومع ذلك سبع آيات أخر .
فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة سبحان ، حيث قال تعالى : "
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون
إني لأظنك يا موسى مسحورا " .
وهي المبسوطة في سورة الأعراف في قوله : " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين
ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن
تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا
يعلمون * وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين *
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات
فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه .
وهذه التسع الآيات غير العشر الكلمات . فإن التسع من كلمات الله القدرية ،
والعشر من كلماته الشرعية ، وإنما نبهنا على هذا لأنه قد اشتبه أمرها على
بعض الرواة ، فظن أن هذه هي هذه ، كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني
إسرائيل .
* * *
والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون : "
قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني
لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك
ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون "
.
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام ، في جوابه
لربه عز وجل ، حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فراراً من
سطوته وظلمه ، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا : " قال رب
إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا
فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون " أي أجعله معي معيناً وردءاً
ووزيراً يساعدني ، ويعينني على أداء رسالتك إليهم فإنه أفصح مني لساناً
وأبلغ بياناً .
قال الله تعالى مجيباً له إلى سؤاله : " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما
سلطانا " أي برهاناً " فلا يصلون إليكما " أي فلا ينالون منكما مكروهاً
بسبب قيامكما بآياتنا ، وقيل ببركة آياتنا . " أنتما ومن اتبعكما الغالبون
" .
وقال في سورة طه : " اذهب إلى فرعون إنه طغى * قال رب اشرح لي صدري * ويسر
لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي " قيل إنه أصابه في لسانه
لثغة ، بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه ، والتي كان فرعون أراد
اختبار عقله ، حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله ، فخافت عليه آسية وقالت
: إنه طفل ، فاختبره بوضع ثمرة وجمرة بين يديه فهم بأخذ الثمرة فصرف الملك
يده إلى الجمرة ، فأخذها فوضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها . فسأل زوال
بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ، ولم يسأل زوالها بالكلية .
قال الحسن البصري : والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت في لسانه بقية .
ولهذا قال فرعون ، قبحه الله ، فيما زعم أنه يعيب به الكليم : " ولا يكاد يبين " أي يفصح عن مراده ، ويعبر عما في ضميره وفؤاده .
ثم قال موسى عليه السلام : " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد
به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا
بصيرا * قال قد أوتيت سؤلك يا موسى " .
أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت ، وأعطيناك الذي طلبت . وهذا من وجاهته عند
ربه عز وجل ، حين شفع أن يوحى الله إلى أخيه فأوحى إليه . وهذا جاه عظيم ،
قال الله تعالى : " وكان عند الله وجيها " وقال تعالى : " ووهبنا له من
رحمتنا أخاه هارون نبيا " .
وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلاً يقول لأناس وهم سائرون في طريق الحج :
أي أخ أمن على أخيه ؟ فسكت القوم ، فقالت عائشة لمن حول هودجها : هو موسى
بن عمران حين شفع في أخيه هارون فأوحى إليه . قال الله تعالى : " ووهبنا
له من رحمتنا أخاه هارون نبيا " .
* * *
وقال تعالى في سورة الشعراء : " وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين
* قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا
ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا
فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب
العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت
فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " .
تقدير الكلام : فأتياه فقالا له ذلك ، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى
عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته
وقهره وسطوته ، ويتركهم يعبدون ربهم حيث شاءوا ويتفرغون لتوحيده ودعائه
والتضرع لديه .
فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغي ، ونظر إلى موسى بعين الإزدراء والتنقص
قائلاً له : " ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين " أي أما أنت
الذي ربيناه في منزلنا ؟ وأحسنا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر ؟
وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه ، خلافاً لما عند أهل
الكتاب : من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين ، وأن الذي بعث
إليه فرعون آخر .
وقوله : " وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " أي وقتلت الرجل القبطي ، وفررت منا وجحدت نعمتنا .
" قال فعلتها إذا وأنا من الضالين " أي قبل أن يوحى إلي وينزل علي ، " ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين " .
ثم قال مجيباً لفرعون عما امتن به من التربية والإحسان إليه : " وتلك نعمة
تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " أي وهذه النعمة التي ذكرت ، من أنك أحسنت
إلى وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم
بكماله ، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك .
" قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم
موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال
إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن
كنتم تعقلون " .
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة ، وما
أقامه الكليم على فرعون اللئيم ، من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية .
وذلك أن فرعون - قبحه الله - أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى وزعم أنه الإله
: " فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى " " وقال فرعون يا أيها الملأ ما
علمت لكم من إله غيري " .
وهو في هذه المقالة معاند ، يعلم أنه عبد مربوب . وأن الله هو الخالق
البارئ المصور ، الإله الحق كما قال تعالى : " وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " .
وقال في النمل : " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان
الله رب العالمين " أي سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد " يا
موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم " .
وقال في سورة طه : " فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك
إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا
إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها
لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى
" .
قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف : لما قصد موسى إلى تلك النار
التي رآها فانتهى إليها ، وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج وكل ما لتلك
النار في اضطرام ، وكل ما لخضرة تلك الضجرة في ازدياد . فوقف متعجباً .
وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه ، كما قال تعالى : " وما
كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين " وكان
موسى في واد اسمه طوى فكان موسى مستقبل القبلة ، وتلك الشجرة عن يمينه من
ناحية الغرب ، فناداه ربه بالواد المقدس طوي ، فأمر أولاً بخلع نعليه
تعظيماً وتكريماً وتوقيراً لتلك البقعة المباركة . ولا سيما في تلك الليلة
المباركة .
وعند أهل الكتاب : أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور ، مهابة له وخوفاً على بصره .
ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلاً له : " إني أنا الله رب العالمين " " إنني
أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " أي أنا رب العالمين
الذي لا إله إلا هو ، الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له .
ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار ، و إنما الدار الباقية يوم
القيامة . التي لا بد من كونها ووجودها : " لتجزى كل نفس بما تسعى " أي من
خير وشر ، وحضه وحثه على العمل لها ، ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصي
مولاه واتبع هواه ، ثم قال مخاطباً ومؤانساً ومبيناً له أنه القادر على كل
شيء ، والذي يقول للشيء كن فيكون : " وما تلك بيمينك يا موسى " أي أما هذه
عصاك التي تعرفها منذ صحبتها ؟ أي بلى هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها ،
" قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى " .
وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول لشيء كن فيكون ، وأنه الفعال بالإختيار .
وعند أهل الكتاب : أنه سأل برهاناً صادقاً على صدقه عند من يكذبه من أهل
مصر ، فقال له الرب عز وجل : ما هذه التي في يدك ؟ قال : عصاي ، قال :
ألقها إلى الأرض " فألقاها فإذا هي حية تسعى " فهرب موسى من قدامها . فأمر
الرب عز وجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها ، فلما استمكن منها ارتدت عصا في
يده .
وقد قال الله تعالى في الآية الآخرى : " وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز
كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب " أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة
وأنياب تصك ، وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان ، وهو ضرب من الحيات يقال له
: الجان والجنان ، وهو لطيف ولكن سريع الإضطراب والحركة جداً ، فهذه جمعت
الضخامة والسرعة الشديدة . فلما عاينها موسى عليه السلام : " ولى مدبرا "
أي هارباً منها ، لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك " ولم يعقب " أي ولم يلتفت
، فناداه ربه قائلاً له : " يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين " .
فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها " قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها
الأولى " فيقال إنه هابها شديداً ، فوضع يده في كم مدرعته . ثم وضع يده في
وسط فمها . وعند أهل الكتاب : أمسك بذنبها . فلما استمكن منها إذا هي قد
عادت كما كانت عصا ذات شعبتين ، فسبحان القدير العظيم . رب المشرقين
والمغربين !
ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه ، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر
بياضاً من غير سوء ، أي من غير برص ولا بهق ، ولهذا قال : " اسلك يدك في
جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب " قيل معناه : إذا
حفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك .
وهذا وإن كان خاصاً به ، إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الإقتداء بالأنبياء .
وقال في سورة النمل : " وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع
آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين " أي هاتان الآيتان وهما :
العصا واليد ، هما البرهانان المشار إليهما في قوله : " فذانك برهانان من
ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين " ومع ذلك سبع آيات أخر .
فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة سبحان ، حيث قال تعالى : "
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون
إني لأظنك يا موسى مسحورا " .
وهي المبسوطة في سورة الأعراف في قوله : " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين
ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن
تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا
يعلمون * وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين *
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات
فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه .
وهذه التسع الآيات غير العشر الكلمات . فإن التسع من كلمات الله القدرية ،
والعشر من كلماته الشرعية ، وإنما نبهنا على هذا لأنه قد اشتبه أمرها على
بعض الرواة ، فظن أن هذه هي هذه ، كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني
إسرائيل .
* * *
والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون : "
قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني
لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك
ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون "
.
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام ، في جوابه
لربه عز وجل ، حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فراراً من
سطوته وظلمه ، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا : " قال رب
إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا
فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون " أي أجعله معي معيناً وردءاً
ووزيراً يساعدني ، ويعينني على أداء رسالتك إليهم فإنه أفصح مني لساناً
وأبلغ بياناً .
قال الله تعالى مجيباً له إلى سؤاله : " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما
سلطانا " أي برهاناً " فلا يصلون إليكما " أي فلا ينالون منكما مكروهاً
بسبب قيامكما بآياتنا ، وقيل ببركة آياتنا . " أنتما ومن اتبعكما الغالبون
" .
وقال في سورة طه : " اذهب إلى فرعون إنه طغى * قال رب اشرح لي صدري * ويسر
لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي " قيل إنه أصابه في لسانه
لثغة ، بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه ، والتي كان فرعون أراد
اختبار عقله ، حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله ، فخافت عليه آسية وقالت
: إنه طفل ، فاختبره بوضع ثمرة وجمرة بين يديه فهم بأخذ الثمرة فصرف الملك
يده إلى الجمرة ، فأخذها فوضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها . فسأل زوال
بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ، ولم يسأل زوالها بالكلية .
قال الحسن البصري : والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت في لسانه بقية .
ولهذا قال فرعون ، قبحه الله ، فيما زعم أنه يعيب به الكليم : " ولا يكاد يبين " أي يفصح عن مراده ، ويعبر عما في ضميره وفؤاده .
ثم قال موسى عليه السلام : " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد
به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا
بصيرا * قال قد أوتيت سؤلك يا موسى " .
أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت ، وأعطيناك الذي طلبت . وهذا من وجاهته عند
ربه عز وجل ، حين شفع أن يوحى الله إلى أخيه فأوحى إليه . وهذا جاه عظيم ،
قال الله تعالى : " وكان عند الله وجيها " وقال تعالى : " ووهبنا له من
رحمتنا أخاه هارون نبيا " .
وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلاً يقول لأناس وهم سائرون في طريق الحج :
أي أخ أمن على أخيه ؟ فسكت القوم ، فقالت عائشة لمن حول هودجها : هو موسى
بن عمران حين شفع في أخيه هارون فأوحى إليه . قال الله تعالى : " ووهبنا
له من رحمتنا أخاه هارون نبيا " .
* * *
وقال تعالى في سورة الشعراء : " وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين
* قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا
ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا
فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب
العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت
فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " .
تقدير الكلام : فأتياه فقالا له ذلك ، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى
عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته
وقهره وسطوته ، ويتركهم يعبدون ربهم حيث شاءوا ويتفرغون لتوحيده ودعائه
والتضرع لديه .
فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغي ، ونظر إلى موسى بعين الإزدراء والتنقص
قائلاً له : " ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين " أي أما أنت
الذي ربيناه في منزلنا ؟ وأحسنا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر ؟
وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه ، خلافاً لما عند أهل
الكتاب : من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين ، وأن الذي بعث
إليه فرعون آخر .
وقوله : " وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " أي وقتلت الرجل القبطي ، وفررت منا وجحدت نعمتنا .
" قال فعلتها إذا وأنا من الضالين " أي قبل أن يوحى إلي وينزل علي ، " ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين " .
ثم قال مجيباً لفرعون عما امتن به من التربية والإحسان إليه : " وتلك نعمة
تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " أي وهذه النعمة التي ذكرت ، من أنك أحسنت
إلى وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم
بكماله ، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك .
" قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم
موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال
إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن
كنتم تعقلون " .
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة ، وما
أقامه الكليم على فرعون اللئيم ، من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية .
وذلك أن فرعون - قبحه الله - أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى وزعم أنه الإله
: " فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى " " وقال فرعون يا أيها الملأ ما
علمت لكم من إله غيري " .
وهو في هذه المقالة معاند ، يعلم أنه عبد مربوب . وأن الله هو الخالق
البارئ المصور ، الإله الحق كما قال تعالى : " وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " .
- youyou17
عدد الرسائل : 2077
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 12/05/2009
رد: إرسال موسى لفرعون وقومه
الإثنين 24 أغسطس 2009, 18:41
ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل
الإنكار لرسالته ، والإظهار أنه ما نم رب أرسله : " وما رب العالمين "
لأنهما قالا له : " إنا رسول رب العالمين " فكأنه يقول لهما : ومن رب
العالمين ؟ الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما ؟
فأجابه موسى قائلاً : " رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين "
يعني رب العالمين خالق هذه السموات والأرض المشاهدة ، وما بينهما من
المخلوقات المتعددة ، من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي
يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق .
وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين .
" قال " أي فرعون " لمن حوله " من أمرائه ومرازبته ووزرائه ، على سبيل
التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام : " ألا تستمعون " يعنى كلامه
هذا .
" قال " موسى مخاطباً له ولهم : " ربكم ورب آبائكم الأولين " أي هو الذي
خلقكم والذين من قبلكم ، من الآباء والأجداد ، والقرون السالفة في الآباد
، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ، ولا أبوه ولا أمه ، ولا يحدث من غير
محدث ، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين . وهذان المقامان هما المذكوران في
قوله تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه
الحق " .
ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ، ولا نزع عن ضلالته بل استمر على
طغيانه وعناده وكفرانه : " قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب
المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " أي هو المسخر لهذه الكواكب
الزاهرة المسيرة للأفلاك الدائرة . خالق الظلام والضياء ، ورب الأرض
والسماء ، رب الأولين والآخرين ، خالق الشمس والقمر ، والكواكب السائرة ،
والثوابت الحائرة ، خالق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، والكل تحت قهره
وتسخيره وتسييره سائرون ، وفي فلك يسبحون ، يتعاقبون في سائر الأوقات
ويدورون . فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء .
فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ، ولم يبق له قول سوى العناد ،
عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته " قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك
من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين
* فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين " .
وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما ، وهما العصا واليد ، وذلك
مقام أظهر فيه الخارق العظيم ، الذي بهر به العقول والأبصار ، حين ألقى
عصاه فإذا هي ثعبان مبين . أي عظيم
الشكل ، بديع في الضخامة والهول ، والمنظر العظيم الفظيع الباهر ، حتى قيل
إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه ، أخذه رهب شديد وخوف عظيم ، بحيث إنه حصل
له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم ، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل
أربعين يوماً إلا مرة واحدة ، فانعكس عليه الحال .
وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها ، أخرجها وهي
كفلقة القمر تتلألأ نوراً يبهر الأبصار ، فإذا أعادها إلى جيبه واستخرجها
رجعت إلى صفتها الأولى .
ومع هذا كله لم ينتفع فرعون - لعنه الله - بشيء من ذلك ، بل استمر على ما
هو عليه ، وأظهر أن هذا كله سحر ، وأراد معارضته بالسحرة ، فأرسل يجمعهم
من سائر مملكته ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته ، كما سيأتي بسطه وبيانه
في موضعه ، من إظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون
وملئه ، وأهل دولته وملته . . ولله الحمد والمنة .
* * *
وقال تعالى في سورة طه : " فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى
* واصطنعتك لنفسي * اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري * اذهبا إلى
فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى * قالا ربنا إننا
نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " .
يقول تعالى مخاطباً لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه ، وأنعم بالنبوة
عليه ، وكلمه منه إليه : قد كنت مشاهداً لك وأنت في دار فرعون ، وأنت تحت
كنفي وحفظي ولطفي ، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي
وتدبيري ، فلبثت فيها سنين " ثم جئت على قدر " أي منى لذلك ، فوافق ذلك
تقديري وتسييري " واصطنعتك لنفسي " أي اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي .
" اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري " يعني ولا تفترا في ذكري إذا
قدمتما عليه ووفدتما إليه ، فإنه ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته ،
وأداء النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه .
وقد جاء في بعض الأحاديث : يقول الله تعالى : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني
وهو ملاق قرنه وقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " .
ثم قال تعالى : " اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله
يتذكر أو يخشى " وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه ، مع علمه
بكفر فرعون وعتوه وتجبره ، وهو إذ ذاك أردى خلقه ، وقد بعث إليه صفوته من
خلقه في ذلك الزمان ، ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعوا إليه بالتي هي
أحسن برفق ولين ، ويعاملاه بألطف معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى .
كما قال لرسوله : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم
بالتي هي أحسن " وقال تعالى : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن
إلا الذين ظلموا منهم " قال الحسن البصري : " فقولا له قولا لينا " أعذرا
إليه ، قولا له : إن لك رباً ولنا معاداً ، وإنما بين يديك جنة وناراً .
وقال وهب بن منبه : قولا له : إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب
والعقوبة . قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية : يا من يتحبب إلى من يعاديه ،
فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟ !
" قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " وذلك أن فرعون كان
جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً ، له سلطان في بلاد مصر طويل عريض ، وجاه
وجنود ، وعساكر وسطوة ، فهاناه من حيث البشرية ، وخافا أنا يسطو عليهما في
بادئ الأمر ، فثبتهما تعالى وهو العلي الأعلى فقال : " لا تخافا إنني
معكما أسمع وأرى " كما قال في الآية الأخرى : " إنا معكم مستمعون " .
" فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك
بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على
من كذب وتولى " يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون فيدعواه إلى
الله تعالى ، أن يعبده وحده لا شريك له وأن يرسل معهما بني إسرائيل
ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم . " قد جئناك بآية من ربك " وهو البرهان
العظيم في العصي واليد ، " والسلام على من اتبع الهدى " تقييد مفيد بليغ
عظيم ، ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا : " إنا قد أوحي إلينا أن
العذاب على من كذب وتولى " أي كذب بالحق بقلبه . وتولى عن العمل بقالبه .
وقد ذكر السدي وغيره : أنه لما قدم من بلاد مدين ، دخل علي أمه وأخيه
هارون ، وهما يتعشيان من طعام فيه الطفشيل وهو اللفت ، فآكل معهما ، ثم
قال : يا هارون . . إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته . فقم
معي ، فقاما يقصدان باب فرعون فإذا هو مغلق . فقال موسى للبوابين والحجبة
، أعلموه أن رسول الله بالباب . فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به .
وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل ، قال محمد بن
إسحاق : أذن لهما بعد سنتين ، لأنه لم يك أحد يتجاسر على الإستئذان لهما .
. فالله أعلم . ويقال إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه ، فانزعج فرعون
وأمر بإحضارهما ، فوقفا بين يديه فدعواه إلى الله عز وجل كما أمرهما .
وعند أهل الكتاب : أن الله قال لموسى عليه السلام : إن هارون اللاوي -
يعنى الذي من نسل لاوي بن يعقوب - سيخرج ويتلقاك ، وأمره أن يأخذ معه
مشايخ بني إسرائيل إلى فرعون ، وأمره أن يظهر ما آتاه من الآيات وقال له :
إني سأقسى قلبه فلا يرسل الشعب ، وأكثر آياتي وأعاجيبي بأرض مصر . وأوحي
الله إلى هارون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب ، فلما
تلقاه أخبره موسى أمره به ربه . فلما دخلا مصر جميعاً شيوخ بني إسرائيل
وذهبا إلى فرعون ، فلما بلغاه رسالة الله قال : من هو الله ؟ لا أعرفه ولا
أرسل بني إسرائيل .
* * *
وقال الله مخبراً عن فرعون : " قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي
في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى * الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها
سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا
أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها
نخرجكم تارة أخرى " .
يقول تعالى مخبراً عن فرعون : إنه أنكر إثبات الصانع تعالى قائلاً : " فمن
ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " أي هو الذي خلق
الخلق وقدر لهم أعمالاً وأرزاقاً وآجالاً ، وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح
المحفوظ ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له ، فطابق عمله فيهم على الوجه
الذي قدره وعلمه ، وقدرته وقدره لكمال علمه ، وهذه الآية كقوله تعالى : "
سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى " أي قدر قدراً وهدى
الخلائق إليه .
" قال فما بال القرون الأولى " يقول فرعون لموسى : فإذا كان ربك هو الخالق
المقدر الهادي الخلائق لما قدره ، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق
العبادة سواه ، فلم عبد الأولون غيره ؟ وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما
قد علمت ؟ فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى ؟ " قال علمها عند ربي
في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " أي هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك ،
ولا يدل على خلاف ما أقول لأنهم جهلة مثلك ، وكل شيء فعلوه مستطر عليهم في
الزبر ، من صغير وكبير ، وسيجزيهم على ذلك ربي عز وجل ، ولا يظلم أحداً
مثقال ذرة ، لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه شيء
ولا ينسى ربي شيئاً .
ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الأشياء ، وجعله الأرض مهاداً والسماء
سقفاً محفوظاً ، وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم ،
كما قال : " كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى " أي لذي
العقول الصحيحة المستقيمة . والفطر القويمة غير المستقيمة ، فهو تعالى
الخالق الرازق ، كما قال تعالى : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم
والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء
وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا
وأنتم تعلمون " .
ولما ذكر إحياء الأرض بالمطر ، واهتزازها بإخراج نباتها فيه نبه به على
المعاذ فقال : " منها " أي من الأرض " خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم
تارة أخرى " كما قال تعالى : " كما بدأكم تعودون " وقال تعالى : " وهو
الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات
والأرض وهو العزيز الحكيم " .
الإنكار لرسالته ، والإظهار أنه ما نم رب أرسله : " وما رب العالمين "
لأنهما قالا له : " إنا رسول رب العالمين " فكأنه يقول لهما : ومن رب
العالمين ؟ الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما ؟
فأجابه موسى قائلاً : " رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين "
يعني رب العالمين خالق هذه السموات والأرض المشاهدة ، وما بينهما من
المخلوقات المتعددة ، من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي
يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق .
وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين .
" قال " أي فرعون " لمن حوله " من أمرائه ومرازبته ووزرائه ، على سبيل
التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام : " ألا تستمعون " يعنى كلامه
هذا .
" قال " موسى مخاطباً له ولهم : " ربكم ورب آبائكم الأولين " أي هو الذي
خلقكم والذين من قبلكم ، من الآباء والأجداد ، والقرون السالفة في الآباد
، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ، ولا أبوه ولا أمه ، ولا يحدث من غير
محدث ، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين . وهذان المقامان هما المذكوران في
قوله تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه
الحق " .
ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ، ولا نزع عن ضلالته بل استمر على
طغيانه وعناده وكفرانه : " قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب
المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " أي هو المسخر لهذه الكواكب
الزاهرة المسيرة للأفلاك الدائرة . خالق الظلام والضياء ، ورب الأرض
والسماء ، رب الأولين والآخرين ، خالق الشمس والقمر ، والكواكب السائرة ،
والثوابت الحائرة ، خالق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، والكل تحت قهره
وتسخيره وتسييره سائرون ، وفي فلك يسبحون ، يتعاقبون في سائر الأوقات
ويدورون . فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء .
فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ، ولم يبق له قول سوى العناد ،
عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته " قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك
من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين
* فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين " .
وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما ، وهما العصا واليد ، وذلك
مقام أظهر فيه الخارق العظيم ، الذي بهر به العقول والأبصار ، حين ألقى
عصاه فإذا هي ثعبان مبين . أي عظيم
الشكل ، بديع في الضخامة والهول ، والمنظر العظيم الفظيع الباهر ، حتى قيل
إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه ، أخذه رهب شديد وخوف عظيم ، بحيث إنه حصل
له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم ، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل
أربعين يوماً إلا مرة واحدة ، فانعكس عليه الحال .
وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها ، أخرجها وهي
كفلقة القمر تتلألأ نوراً يبهر الأبصار ، فإذا أعادها إلى جيبه واستخرجها
رجعت إلى صفتها الأولى .
ومع هذا كله لم ينتفع فرعون - لعنه الله - بشيء من ذلك ، بل استمر على ما
هو عليه ، وأظهر أن هذا كله سحر ، وأراد معارضته بالسحرة ، فأرسل يجمعهم
من سائر مملكته ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته ، كما سيأتي بسطه وبيانه
في موضعه ، من إظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون
وملئه ، وأهل دولته وملته . . ولله الحمد والمنة .
* * *
وقال تعالى في سورة طه : " فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى
* واصطنعتك لنفسي * اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري * اذهبا إلى
فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى * قالا ربنا إننا
نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " .
يقول تعالى مخاطباً لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه ، وأنعم بالنبوة
عليه ، وكلمه منه إليه : قد كنت مشاهداً لك وأنت في دار فرعون ، وأنت تحت
كنفي وحفظي ولطفي ، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي
وتدبيري ، فلبثت فيها سنين " ثم جئت على قدر " أي منى لذلك ، فوافق ذلك
تقديري وتسييري " واصطنعتك لنفسي " أي اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي .
" اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري " يعني ولا تفترا في ذكري إذا
قدمتما عليه ووفدتما إليه ، فإنه ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته ،
وأداء النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه .
وقد جاء في بعض الأحاديث : يقول الله تعالى : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني
وهو ملاق قرنه وقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " .
ثم قال تعالى : " اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله
يتذكر أو يخشى " وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه ، مع علمه
بكفر فرعون وعتوه وتجبره ، وهو إذ ذاك أردى خلقه ، وقد بعث إليه صفوته من
خلقه في ذلك الزمان ، ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعوا إليه بالتي هي
أحسن برفق ولين ، ويعاملاه بألطف معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى .
كما قال لرسوله : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم
بالتي هي أحسن " وقال تعالى : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن
إلا الذين ظلموا منهم " قال الحسن البصري : " فقولا له قولا لينا " أعذرا
إليه ، قولا له : إن لك رباً ولنا معاداً ، وإنما بين يديك جنة وناراً .
وقال وهب بن منبه : قولا له : إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب
والعقوبة . قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية : يا من يتحبب إلى من يعاديه ،
فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟ !
" قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " وذلك أن فرعون كان
جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً ، له سلطان في بلاد مصر طويل عريض ، وجاه
وجنود ، وعساكر وسطوة ، فهاناه من حيث البشرية ، وخافا أنا يسطو عليهما في
بادئ الأمر ، فثبتهما تعالى وهو العلي الأعلى فقال : " لا تخافا إنني
معكما أسمع وأرى " كما قال في الآية الأخرى : " إنا معكم مستمعون " .
" فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك
بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على
من كذب وتولى " يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون فيدعواه إلى
الله تعالى ، أن يعبده وحده لا شريك له وأن يرسل معهما بني إسرائيل
ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم . " قد جئناك بآية من ربك " وهو البرهان
العظيم في العصي واليد ، " والسلام على من اتبع الهدى " تقييد مفيد بليغ
عظيم ، ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا : " إنا قد أوحي إلينا أن
العذاب على من كذب وتولى " أي كذب بالحق بقلبه . وتولى عن العمل بقالبه .
وقد ذكر السدي وغيره : أنه لما قدم من بلاد مدين ، دخل علي أمه وأخيه
هارون ، وهما يتعشيان من طعام فيه الطفشيل وهو اللفت ، فآكل معهما ، ثم
قال : يا هارون . . إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته . فقم
معي ، فقاما يقصدان باب فرعون فإذا هو مغلق . فقال موسى للبوابين والحجبة
، أعلموه أن رسول الله بالباب . فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به .
وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل ، قال محمد بن
إسحاق : أذن لهما بعد سنتين ، لأنه لم يك أحد يتجاسر على الإستئذان لهما .
. فالله أعلم . ويقال إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه ، فانزعج فرعون
وأمر بإحضارهما ، فوقفا بين يديه فدعواه إلى الله عز وجل كما أمرهما .
وعند أهل الكتاب : أن الله قال لموسى عليه السلام : إن هارون اللاوي -
يعنى الذي من نسل لاوي بن يعقوب - سيخرج ويتلقاك ، وأمره أن يأخذ معه
مشايخ بني إسرائيل إلى فرعون ، وأمره أن يظهر ما آتاه من الآيات وقال له :
إني سأقسى قلبه فلا يرسل الشعب ، وأكثر آياتي وأعاجيبي بأرض مصر . وأوحي
الله إلى هارون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب ، فلما
تلقاه أخبره موسى أمره به ربه . فلما دخلا مصر جميعاً شيوخ بني إسرائيل
وذهبا إلى فرعون ، فلما بلغاه رسالة الله قال : من هو الله ؟ لا أعرفه ولا
أرسل بني إسرائيل .
* * *
وقال الله مخبراً عن فرعون : " قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي
في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى * الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها
سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا
أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها
نخرجكم تارة أخرى " .
يقول تعالى مخبراً عن فرعون : إنه أنكر إثبات الصانع تعالى قائلاً : " فمن
ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " أي هو الذي خلق
الخلق وقدر لهم أعمالاً وأرزاقاً وآجالاً ، وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح
المحفوظ ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له ، فطابق عمله فيهم على الوجه
الذي قدره وعلمه ، وقدرته وقدره لكمال علمه ، وهذه الآية كقوله تعالى : "
سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى " أي قدر قدراً وهدى
الخلائق إليه .
" قال فما بال القرون الأولى " يقول فرعون لموسى : فإذا كان ربك هو الخالق
المقدر الهادي الخلائق لما قدره ، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق
العبادة سواه ، فلم عبد الأولون غيره ؟ وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما
قد علمت ؟ فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى ؟ " قال علمها عند ربي
في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " أي هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك ،
ولا يدل على خلاف ما أقول لأنهم جهلة مثلك ، وكل شيء فعلوه مستطر عليهم في
الزبر ، من صغير وكبير ، وسيجزيهم على ذلك ربي عز وجل ، ولا يظلم أحداً
مثقال ذرة ، لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه شيء
ولا ينسى ربي شيئاً .
ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الأشياء ، وجعله الأرض مهاداً والسماء
سقفاً محفوظاً ، وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم ،
كما قال : " كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى " أي لذي
العقول الصحيحة المستقيمة . والفطر القويمة غير المستقيمة ، فهو تعالى
الخالق الرازق ، كما قال تعالى : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم
والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء
وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا
وأنتم تعلمون " .
ولما ذكر إحياء الأرض بالمطر ، واهتزازها بإخراج نباتها فيه نبه به على
المعاذ فقال : " منها " أي من الأرض " خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم
تارة أخرى " كما قال تعالى : " كما بدأكم تعودون " وقال تعالى : " وهو
الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات
والأرض وهو العزيز الحكيم " .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى