- youyou17
عدد الرسائل : 2077
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 12/05/2009
أحوال الناس في يوم القيامة
الجمعة 28 أغسطس 2009, 02:24
أحوال الناس في يوم القيامة
تختلف أحوال الناس في ذلك اليوم اختلافاً بيناً ، وسنعرض هنا لثلاثة : الكفار ، وعصاة الموحدين ، والأتقياء الصالحين .
حال الكفار
ذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم
الذي يتأمل في نصوص الكتاب والسنة التي تحدثنا عن مشاهد القيامة يرى
الأهوال العظام والمصائب الكبار التي تنزل بالكفرة المجرمين في ذلك اليوم
العظيم .
وسنعرض في هذا المبحث بعض المشاهد التي يصفها القرآن الكريم .
1- قال تعالى مبيناً حال الكفار عند خروجهم من القبور : ( يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ
الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) [ المعارج : 43-44 ] .
والأجداث هي القبور ، والنص يصور سرعة خروجهم من القبور في ذلك اليوم
منطلقين إلى مصدر الصوت كأنهم يسرعون إلى الأنصاب التي كانوا يعبدونها في
الدنيا ، ولكنهم اليوم لا ينطلقون فرحين أشرين بطرين كما كان حالهم عندما
كانوا يقصدون الأنصاب ، بل هم أذلاء ، أبصارهم خاشعة ، والصغار يعلوهم ،
على النعت الذي كان يعدهم الله به في الدنيا .
2- وقال تعالى : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى
شَيْءٍ نُّكُرٍ - خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ
كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ - مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ
الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ) [ القمر : 6- 8 ] .
وهذه الآية تنص على ما نصت عليه الآيات السابقة من خروجهم خاشعي الأبصار
أذلاء ، مسرعين إلى مصدر الصوت الذي يناديهم ويدعوهم ، وتزيدنا بياناً
بإعطائنا صورة حية لمشهد البعث والنشور ، فحالهم في ذلك اليوم في حركتهم
وانطلاقتهم وهم يخرجون مسرعين كحال الجراد المنتشر ، ويفيدنا النص أيضاً
اعتراف الكفار في ذلك اليوم بصعوبة موقفهم ( يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا
يَوْمٌ عَسِرٌ ) [ القمر : 8 ] .
3- ويفيدنا نص ثالث أن الكفار ينادون بالويل والثبور عندما ينفخ في الصور متسائلين عمن أقامهم من رقدتهم .
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ
يَنسِلُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ) [يس
: 51-52] .
وقد كان أبو محكم الجسري يجتمع إليه إخوانه ، وكان حكيماً ، فإذا تلى
الآية السابقة بكى ، ثم قال : " إن القيامة ذهبت فظاعتها بأوهام العقول ،
أما والله لئن كان القوم في رقدة مثل ظاهر قولهم ، لما دعوا بالويل عند
أول وهلة من بعثهم ، ولم يوقفوا بعد موقف عرض ولا مسألة إلا وقد عاينوا
خطراً عظيماً ، وحقت عليهم القيامة بالجلائل من أمرها ، ولكن كانوا في طول
الإقامة في البرزخ يألمون ويعذبون في قبورهم ، وما دعوا بالويل عند انقطاع
ذلك عنهم ، إلا وقد نقلوا إلى طامة هي أعظم منه ، ولولا أن الأمر على ذلك
ما استصغر القوم ما كانوا منه ، فسموه رقاداً ، وإن في القرآن لدليلاً على
ذلك : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) [ النازعات : 34 ] ، ثم يبكي حتى يبل
لحيته " (1) .
4- ويضيف نص آخر ملامح جديدة إلى صورتهم حال بعثهم ، فأبصارهم لشدة الهول
شاخصة جاحظة ، وأفئدتهم خالية إلا من الهول الذي يحيط بهم ، قال تعالى : (
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ -
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ) [ إبراهيم : 42-43 ] .
يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله وأجزل له المثوبة – في تفسير هذه الآيات
: "والرسول صلى الله عليه وسلم – لا يحسب الله غافلاً عما يعمل الظالمون ،
ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون ، ويسمع بوعيد
الله ، ثم لا يراه واقعاً بهم في الحياة الدنيا ، فهذه الصيغة تكشف عن
الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة ، التي لا إمهال بعدها ، ولا فكاك
منها ، أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع ،
فتظل مبهوتة مذهولة ، مأخوذة بالهـول لا تطرف ولا تتحـرك .
ثم يرسم مشهداً للقوم في زحمة الهول .. ، مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء
، ولا يلتفتون إلى شيء ، رافعين رؤوسهم ، لا عن إرادة ، ولكنها مشدودة ،
لا يملكون لها حراكاً . يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب ، فلا يطرف
ولا يرتد إليهم ، وقلوبهم من الفزع خاوية خالية ، لا تضم شيئاً يعونه أو
يحفظونه ، أو يتذكرونه ، فهي هواء خاوية . هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله
إليه ، حيث يقفون في هذا الموقف ، ويعانون هذا الرعب ، الذي يرتسم من خلال
هذه المقاطع الأربعة ، مذهلاً آخذاً بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق
الرعيب : ( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ -
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ) [ إبراهيم : 42-43 ] .
فالسرعة المهرولة المدفوعة ، في الهيئة الشاخصة المكروهة المشدودة ، مع
القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي من الإدراك .. كلها تشي بالهول الذي
تشخص فيه الأبصار " (2) .
5- ويصور القرآن الفزع الذي يسيطر على نفوس الكفار في يوم الموقف العظيم
فيقول : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى
الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ
يُطَاعُ ) [ غافر : 18 ] .
" والآزفة ... القريبة العاجلة ...هي القيامة ، واللفظ يصورها كأنها زاحفة
والأنفاس من ثم مكروبة لاهثة ، وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر ،
وهم كاظمون لأنفاسهم ولآلامهم ولمخاوفهم ، والكظم يكربهم ، ويثقل على
صدورهم ، وهم لا يجدون حميماً يعطف عليهم ، ولا شفيعاً ذا كلمة تطاع في
هذا الموقف العصيب المكروب " (3) .
6- وما كان هؤلاء في حكم الله مجرمين متمردين على خالقهم وإلههم ،
مستكبرين عن عبادته وطاعته – فإنه يؤتى بهم إلى ربهم وخالقهم مقرنين في
الأصفاد ، مسربلين بالقطران تغشى وجوههم النار ، ويا لفظاعة حالهم ، وعظم
ما يلقون ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ
وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ - وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ - سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ) [ إبراهيم : 48-50 ] .
يقول الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآيات : " وتعاين الذين كفروا بالله
، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ ، يعني يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسماوات ، ( مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ) [ إبراهيم : 49 ] ، يقول :
مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد ، وهي الوثاق من غل وسلسلة ،
واحدها صفد " (4) .
والسرابيل : هي القمص التي يلبسونها ، والقطران : المادة التي تطلى بها الإبل إذا أصابها الجرب ، وقيل : القطران النحاس .
7- وتدنو الشمس من رؤوس العباد في ذلك اليوم حتى لا يكون بينها وبينهم إلا
مقدار ميل واحد ، ولوا أنهم مخلوقون خلقاً غير قابل للفناء لانصهروا
وذابوا وتبخروا ، ولكنهم بعد الموت لا يموتون .
ويذهب عرقهم في الأرض حتى يرويها ، ثم يرتفع فوق الأرض ، ويأخذهم على قدر
أعمالهم . ففي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : " تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق ، حتى تكون منهم
كمقدار ميل " .
قال سليم بن عامر : فوالله ما أدري ما يعني بالميل ؟ أمسافة الأرض ، أم الميل الذي تكتحل به العين .
قال : " فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبيه
. ومنهم من يكون إلى ركبتيه . ومنهم من يكون إلى حقويه . ومنهم من يلجمه
العرق إلجاماً " .
قال : وأشار رسول الله بيده إلى فيه (5) .
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه وسلم : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 6 ] ، قال : "
يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " (6) .
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : " يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين
ذراعاً ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم " (7) .
8- وعندما يرى الكفار العذاب والهوان الذي يصيبهم ويصيب أمثالهم من الكفرة
المشركين يأخذهم الحسرة والندم ، ولكثرة حسرة العذاب سمى الله ذلك اليوم
بيوم الحسرة ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلةٍ وهم لا
يؤمنون ) [ مريم : 39 ] .
ولشدة تحسر الكفار وندمه على عدم اتباعه للرسول الذي بعثه إليه ، واتباعه
لأعداء الرسل ، فإنه يعض على يديه ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى
يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا -
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - لَقَدْ
أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ
لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ) [ الفرقان : 27-29 ] .
9- وفي ذلك اليوم يوقن الكفار أن ذنبهم غير مغفور ، وعذرهم غير مقبول ،
فييأسوا من رحمة الله ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ
الْمُجْرِمُونَ ) [الروم : 12] .
10- ويتمنى الكفار في ذلك اليوم أن يهلكهم الله ، ويجعلهم تراباً (
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ
تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ ) [ النساء : 42 ] ، ( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا
لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) [ النبأ : 40 ] ، فما بالك بأقوام كانت
مناياهم هي غاية المنى !! .
--------------------------------
(1) النهاية لابن كثير : (1/274) .
(2) في ضلال القرآن : (4/2111) .
(3) في ضلال القرآن : (6/3074) .
(4) تفسير ابن جرير الطبري : (13/254) .
(5) صحيح مسلم ، كتاب الجنة ، باب في صفة القيامة (4/2196) ، ورقمه : (2864) .
(6) رواه البخاري في كتاب الرقاق ، باب قول الله تعالى : ( ألا يظن أولئك
أنهم مبعوثون ) [ المطففين :4] ، فتح الباري ، (11/392) . ورواه مسلم في
كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب في صفة يوم القيامة ، (4/2196) ، ورقمه
:2862 .
(7) المصادر السابقة ، والسياق للبخاري
تختلف أحوال الناس في ذلك اليوم اختلافاً بيناً ، وسنعرض هنا لثلاثة : الكفار ، وعصاة الموحدين ، والأتقياء الصالحين .
حال الكفار
ذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم
الذي يتأمل في نصوص الكتاب والسنة التي تحدثنا عن مشاهد القيامة يرى
الأهوال العظام والمصائب الكبار التي تنزل بالكفرة المجرمين في ذلك اليوم
العظيم .
وسنعرض في هذا المبحث بعض المشاهد التي يصفها القرآن الكريم .
1- قال تعالى مبيناً حال الكفار عند خروجهم من القبور : ( يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ
الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) [ المعارج : 43-44 ] .
والأجداث هي القبور ، والنص يصور سرعة خروجهم من القبور في ذلك اليوم
منطلقين إلى مصدر الصوت كأنهم يسرعون إلى الأنصاب التي كانوا يعبدونها في
الدنيا ، ولكنهم اليوم لا ينطلقون فرحين أشرين بطرين كما كان حالهم عندما
كانوا يقصدون الأنصاب ، بل هم أذلاء ، أبصارهم خاشعة ، والصغار يعلوهم ،
على النعت الذي كان يعدهم الله به في الدنيا .
2- وقال تعالى : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى
شَيْءٍ نُّكُرٍ - خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ
كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ - مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ
الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ) [ القمر : 6- 8 ] .
وهذه الآية تنص على ما نصت عليه الآيات السابقة من خروجهم خاشعي الأبصار
أذلاء ، مسرعين إلى مصدر الصوت الذي يناديهم ويدعوهم ، وتزيدنا بياناً
بإعطائنا صورة حية لمشهد البعث والنشور ، فحالهم في ذلك اليوم في حركتهم
وانطلاقتهم وهم يخرجون مسرعين كحال الجراد المنتشر ، ويفيدنا النص أيضاً
اعتراف الكفار في ذلك اليوم بصعوبة موقفهم ( يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا
يَوْمٌ عَسِرٌ ) [ القمر : 8 ] .
3- ويفيدنا نص ثالث أن الكفار ينادون بالويل والثبور عندما ينفخ في الصور متسائلين عمن أقامهم من رقدتهم .
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ
يَنسِلُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ) [يس
: 51-52] .
وقد كان أبو محكم الجسري يجتمع إليه إخوانه ، وكان حكيماً ، فإذا تلى
الآية السابقة بكى ، ثم قال : " إن القيامة ذهبت فظاعتها بأوهام العقول ،
أما والله لئن كان القوم في رقدة مثل ظاهر قولهم ، لما دعوا بالويل عند
أول وهلة من بعثهم ، ولم يوقفوا بعد موقف عرض ولا مسألة إلا وقد عاينوا
خطراً عظيماً ، وحقت عليهم القيامة بالجلائل من أمرها ، ولكن كانوا في طول
الإقامة في البرزخ يألمون ويعذبون في قبورهم ، وما دعوا بالويل عند انقطاع
ذلك عنهم ، إلا وقد نقلوا إلى طامة هي أعظم منه ، ولولا أن الأمر على ذلك
ما استصغر القوم ما كانوا منه ، فسموه رقاداً ، وإن في القرآن لدليلاً على
ذلك : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) [ النازعات : 34 ] ، ثم يبكي حتى يبل
لحيته " (1) .
4- ويضيف نص آخر ملامح جديدة إلى صورتهم حال بعثهم ، فأبصارهم لشدة الهول
شاخصة جاحظة ، وأفئدتهم خالية إلا من الهول الذي يحيط بهم ، قال تعالى : (
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ -
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ) [ إبراهيم : 42-43 ] .
يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله وأجزل له المثوبة – في تفسير هذه الآيات
: "والرسول صلى الله عليه وسلم – لا يحسب الله غافلاً عما يعمل الظالمون ،
ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون ، ويسمع بوعيد
الله ، ثم لا يراه واقعاً بهم في الحياة الدنيا ، فهذه الصيغة تكشف عن
الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة ، التي لا إمهال بعدها ، ولا فكاك
منها ، أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع ،
فتظل مبهوتة مذهولة ، مأخوذة بالهـول لا تطرف ولا تتحـرك .
ثم يرسم مشهداً للقوم في زحمة الهول .. ، مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء
، ولا يلتفتون إلى شيء ، رافعين رؤوسهم ، لا عن إرادة ، ولكنها مشدودة ،
لا يملكون لها حراكاً . يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب ، فلا يطرف
ولا يرتد إليهم ، وقلوبهم من الفزع خاوية خالية ، لا تضم شيئاً يعونه أو
يحفظونه ، أو يتذكرونه ، فهي هواء خاوية . هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله
إليه ، حيث يقفون في هذا الموقف ، ويعانون هذا الرعب ، الذي يرتسم من خلال
هذه المقاطع الأربعة ، مذهلاً آخذاً بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق
الرعيب : ( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ -
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ) [ إبراهيم : 42-43 ] .
فالسرعة المهرولة المدفوعة ، في الهيئة الشاخصة المكروهة المشدودة ، مع
القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي من الإدراك .. كلها تشي بالهول الذي
تشخص فيه الأبصار " (2) .
5- ويصور القرآن الفزع الذي يسيطر على نفوس الكفار في يوم الموقف العظيم
فيقول : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى
الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ
يُطَاعُ ) [ غافر : 18 ] .
" والآزفة ... القريبة العاجلة ...هي القيامة ، واللفظ يصورها كأنها زاحفة
والأنفاس من ثم مكروبة لاهثة ، وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر ،
وهم كاظمون لأنفاسهم ولآلامهم ولمخاوفهم ، والكظم يكربهم ، ويثقل على
صدورهم ، وهم لا يجدون حميماً يعطف عليهم ، ولا شفيعاً ذا كلمة تطاع في
هذا الموقف العصيب المكروب " (3) .
6- وما كان هؤلاء في حكم الله مجرمين متمردين على خالقهم وإلههم ،
مستكبرين عن عبادته وطاعته – فإنه يؤتى بهم إلى ربهم وخالقهم مقرنين في
الأصفاد ، مسربلين بالقطران تغشى وجوههم النار ، ويا لفظاعة حالهم ، وعظم
ما يلقون ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ
وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ - وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ - سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ) [ إبراهيم : 48-50 ] .
يقول الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآيات : " وتعاين الذين كفروا بالله
، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ ، يعني يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسماوات ، ( مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ) [ إبراهيم : 49 ] ، يقول :
مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد ، وهي الوثاق من غل وسلسلة ،
واحدها صفد " (4) .
والسرابيل : هي القمص التي يلبسونها ، والقطران : المادة التي تطلى بها الإبل إذا أصابها الجرب ، وقيل : القطران النحاس .
7- وتدنو الشمس من رؤوس العباد في ذلك اليوم حتى لا يكون بينها وبينهم إلا
مقدار ميل واحد ، ولوا أنهم مخلوقون خلقاً غير قابل للفناء لانصهروا
وذابوا وتبخروا ، ولكنهم بعد الموت لا يموتون .
ويذهب عرقهم في الأرض حتى يرويها ، ثم يرتفع فوق الأرض ، ويأخذهم على قدر
أعمالهم . ففي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : " تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق ، حتى تكون منهم
كمقدار ميل " .
قال سليم بن عامر : فوالله ما أدري ما يعني بالميل ؟ أمسافة الأرض ، أم الميل الذي تكتحل به العين .
قال : " فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبيه
. ومنهم من يكون إلى ركبتيه . ومنهم من يكون إلى حقويه . ومنهم من يلجمه
العرق إلجاماً " .
قال : وأشار رسول الله بيده إلى فيه (5) .
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه وسلم : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 6 ] ، قال : "
يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " (6) .
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : " يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين
ذراعاً ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم " (7) .
8- وعندما يرى الكفار العذاب والهوان الذي يصيبهم ويصيب أمثالهم من الكفرة
المشركين يأخذهم الحسرة والندم ، ولكثرة حسرة العذاب سمى الله ذلك اليوم
بيوم الحسرة ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلةٍ وهم لا
يؤمنون ) [ مريم : 39 ] .
ولشدة تحسر الكفار وندمه على عدم اتباعه للرسول الذي بعثه إليه ، واتباعه
لأعداء الرسل ، فإنه يعض على يديه ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى
يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا -
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - لَقَدْ
أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ
لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ) [ الفرقان : 27-29 ] .
9- وفي ذلك اليوم يوقن الكفار أن ذنبهم غير مغفور ، وعذرهم غير مقبول ،
فييأسوا من رحمة الله ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ
الْمُجْرِمُونَ ) [الروم : 12] .
10- ويتمنى الكفار في ذلك اليوم أن يهلكهم الله ، ويجعلهم تراباً (
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ
تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ ) [ النساء : 42 ] ، ( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا
لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) [ النبأ : 40 ] ، فما بالك بأقوام كانت
مناياهم هي غاية المنى !! .
--------------------------------
(1) النهاية لابن كثير : (1/274) .
(2) في ضلال القرآن : (4/2111) .
(3) في ضلال القرآن : (6/3074) .
(4) تفسير ابن جرير الطبري : (13/254) .
(5) صحيح مسلم ، كتاب الجنة ، باب في صفة القيامة (4/2196) ، ورقمه : (2864) .
(6) رواه البخاري في كتاب الرقاق ، باب قول الله تعالى : ( ألا يظن أولئك
أنهم مبعوثون ) [ المطففين :4] ، فتح الباري ، (11/392) . ورواه مسلم في
كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب في صفة يوم القيامة ، (4/2196) ، ورقمه
:2862 .
(7) المصادر السابقة ، والسياق للبخاري
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى