- youyou17
عدد الرسائل : 2077
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 12/05/2009
خروج موسى من مصر إلى مدين
الإثنين 24 أغسطس 2009, 18:40
قال الله تعالى : " فخرج منها خائفا
يترقب " أي فخرج من مدينة مصر من فوره على وجهه لا يهتدي إلى طريق ولا
يعرفه ، قائلاً : " رب نجني من القوم الظالمين * ولما توجه تلقاء مدين قال
عسى ربي أن يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس
يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر
الرعاء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما
أنزلت إلي من خير فقير " .
يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر خائفاً يترقب ، أي يتلفت ،
وخشية أن يدركه أحد من قوم فرعون ، وهو لا يدري أين يتوجه ، ولا إلى أين
يذهب ، وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها .
" ولما توجه تلقاء مدين " أي اتجه له طريق يذهب فيه ، " قال عسى ربي أن
يهديني سواء السبيل " أي عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود . وكذا
وقع ، فقد أوصلته إلى مقصود وأي مقصود .
" ولما ورد ماء مدين " وكانت بئراً يسقون منها ، ومدين هي المدينة التي
أهلك الله فيها أصحاب الأيكة ، وهم قوم شعيب عليه السلام ، وقد كان هلاكهم
قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قولي العلماء .
ولما ورد الماء المذكور " وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم
امرأتين تذودان " أي تكفكفان عنهما غنمهما أن تختلط بغنم الناس .
وعند أهل الكتاب أنهن كن سبع بنات ، وهذا أيضاً من الغلط ، ولعلهن كن
سبعاً ، ولكن إنما كان تسقي اثنتان منهن ، وهذا الجمع ممكن إن كان ذاك
محفوظاً ، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتين " قال ما خطبكما قالتا لا
نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير " أي لا نقدر على ورود الماء إلا
بعد صدور الرعاء ، لضعفنا ، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره .
قال الله تعالى : " فسقى لهما " .
قال المفسرون : وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم . وضعوا على فم
البئر صخرة عظيمة ، فتجيء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام
الناس ، فلما كان ذلك اليوم ، جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده ، ثم استقى
لهما وسقى غنمهما . ثم رد الحجر كما كان . قال أمير المؤمنين عمر : وكان
لا يرفعه إلا عشرة ، وإنما استقى ذنوباً واحداً فكفاهما .
ثم تولى إلى الضل ، قالوا : وكان ظل شجرة من السمر وروى ابن جرير عن ابن
مسعود ، أنه رآها خضراء ترف " فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " .
قال ابن عباس : سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل وورق الشجر ، وكان
حافياً فسقطت نعلاً قدميه من الحفاء وجلس في الظل - وهو صفوة الله من خلقه
- وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه .
وإنه لمحتاج إلى شق تمرة .
قال عطاء بن السائب لما قال : " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " أسمع المرأة .
" فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت
لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين * قالت
إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين * قال إني أريد أن
أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك
وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين * قال ذلك بيني
وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل " .
لما جلس موسى عليه السلام في الظل وقال : " رب إني لما أنزلت إلي من خير
فقير " سمعته المرأتان فيما قيل ، فذهبتا إلى أبيهما فيقال : إنه استنكر
سرعة رجوعهما ، فأخبرتاه بما كان من أمر موسى عليه السلام . فأمر إحداهما
، أن تذهب إليه فتدعوه : " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " أي مشي
الحرائر ، " قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " صرحت له بهذا
لئلا يوهم كلامها ريبة . وهذا من تمام حيائها وصيانتها : " فلما جاءه وقص
عليه القصص " وأخبره خبره وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فراراً من
فرعونها . " قال " له ذلك الشيخ : " لا تخف نجوت من القوم الظالمين " أي
خرجت من سلطانهم فلست في دولتهم .
وقد اختلفوا في هذا الشيخ من هو ؟ فقيل هو شعيب عليه السلام . وهذا هو
المشهور عند كثيرين ، وممن نص عليه الحسن البصري ومالك بن أنس ، وجاء
مصرحاً به في حديث ، ولكن في إسناده نظر .
وصرح طائفة بأن شعيباً عليه السلام عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه ، حتى أدركه موسى عليه السلام هذا ، وتزوج بابنته .
وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الحسن البصري : أن صاحب موسى عليه السلام هذا
، اسمه شعيب ، وكان سيد الماء ، ولكن ليس بالنبي صاحب مدين . وقيل : إنه
ابن أخي شعيب ، وقيل : ابن عمه ، وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب ، وقيل :
رجل اسمه يثرون هكذا هو في كتب أهل الكتاب : يثرون كاهن مدين . أي كبيرها
وعالمها .
وقال ابن عباس وأبو عبيدة بن عبد الله : اسمه يثرون . زاد أبو عبيدة : وهو ابن أخي شعيب . وزاد ابن عباس : صاحب مدين .
والمقصود : أنه لما أضافه وأكرم مثواه ، وقص عليه ما كان من أمره بشره
بأنه قد نجا ، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها : " يا أبت استأجره " أي
لرعي غنمك ، ثم مدحته بأنه قوي أمين .
قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير
واحد : لما قالت ذلك ، قال لها أبوها : وما علمك بهذا ؟ فقال : إنه رفع
صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة ، وإنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال :
كوني من ورائي ، فإذا اختلف الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق .
قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : صاحب يوسف حين قال لامرأته : " أكرمي
مثواه " وصاحبة موسى حين قالت : " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي
الأمين " وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب .
" قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن
أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين
" .
استدل بهذه جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله ، على صحة ما إذا باعه أحد
هذين العبدين أو الثوبين ونحو ذلك ، أن يصح ، لقوله : " إحدى ابنتي هاتين
" .
وفي هذا نظر ، لأن هذه مراوضة لا معاقدة . . والله أعلم .
واستدل أصحاب أحمد على صحة الإستئجار بالطعمة والكقطة ، كما جرت به العادة
، واستأنسوا بالحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه مترجماً عليه في كتابه :
باب استئجار الأجير على طعام بطنه حدثنا محمد بن المصفى الحمصي ، حدثنا
بقية بن الوليد ، عن مسلمة بن على ، عن سعيد بن أبي أيوب ، عن الحارث بن
يزيد ، عن على بن رباح قال : سمعت عتبة ابن الندر يقول : كنا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقرأ : " طسم " حتى إذا بلغ قصة موسى ، قال : "
إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني سنين - أو عشر سنين - على عفة فرجه
وطعام بطنه " .
وهذا الحديث من هذا الوجه لا يصح ، لأن مسلمة بن على الخشني الدمشقي
البلاطي ضعيف عند الأئمة لا يحتج بتفرده ، ولكن قد روى من وجه آخر ، فقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكر ، حدثني
أبي لهيعة . ح . وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا
عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي
قال : سمعت عتبة بن الندر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن موسى عليه السلام آجر نفسه
بعفة فرجه وطعمة بطنه " .
ثم قال تعالى : " ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله
على ما نقول وكيل " يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت ، فأيهما
قضيت فلا عدوان علي والله على مقالتنا سامع وشاهد ، ووكيل علي وعليك ، ومع
هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين وأتمهما وهو العشر سنين كوامل تامة .
قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا
مروان بن شجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألني يهودي من
أهل الحيرة : أي الأجلين قضي موسى ؟ فقلت : لا أدرى حتى أقدم على حبر
العرب فأسأله . فقدمت فسألت ابن عباس فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، أن
رسول الله إذا قال فعل .
تفرد به البخاري من هذا الوجه ، وقد رواه النسائي في حديث الفتون ، كما سيأتي من
طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير به .
وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسي ، وابن أبي حاتم . عن أبيه .
كلاهما عن الحميدي ، عن سفيان بن عيينة ، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي
يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : " سألت جبريل أي الأجلين قضي موسى ؟ قال : أتمهما وأكلهما
" .
وإبراهيم هذا غير معروف إلا بهذا الحديث . وقد رواه البزار عن أحمد بن
أبان القرشي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن أعين ، عن الحكم بن أبان
، عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره .
وقد رواه سنيد عن حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مرسلاً .
أن رسول الله سأل عن ذلك جبريل فسأل جبريل إسرافيل ، فسأل إسرافيل الرب عز وجل فقال : أبرها وأوفاهما .
وبنحوه رواه ابن أبي حاتم من حديث يوسف بن سرج مرسلاً .
ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أوفاهما وأتمهما .
وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران الجوني ، وهو
ضعيف ، عن أبيه عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أوفاهما وأبرهما قال :
وإن سئلت أي المرأتين تزوج ؟ فقال الصغرى منهما .
وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن
يزيد الحضرمي ، عن على بن رباح ، عن عتبة بن الندر ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : " إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه وطعام بطنه " فلما وفي
الأجل قيل : يا رسول الله . . أي الأجلين ؟ ،قال : أبرهما وأوفاهما .
فلما أراد فراق شعيب - سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما
يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت غنمه ، من قالب لون من ولد ذلك العام ، وكانت
غنمه سوداء حساناً ، فانطلق موسى عليه السلام إلى عصا قسمها من طرفها ثم
وضعها في أدني الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى عليه السلام بإزاء
الحوض ، فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة ، قال : فأتأمت وألبنت
ووضعت كلها في قوالب ألوان ، إلا شاة أو شاتين ، ليس فيها فشوش ، ولا ضبوب
، ولا عزوز ، ولا ثعول ، ولا كموش تفوت الكف . قال النبي صلى الله عليه
وسلم : " لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية " .
قال ابن لهيعة : الفشوش : واسعة الشخب ، والضبوب : طويلة الضرع تجره .
والعزوز : ضيقة الشخب . والثعول : الصغيرة الضرع كالحلمتين ، والكموش :
التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره .
وفي صحة رفع هذا الحديث نظر . وقد يكون موقوفاً كما قال ابن جرير : حدثنا
محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس
بن مالك قال : لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ،
قال له صاحبه : كل شاة ولدت على غير لونها فلك ولدها ، فعمد موسى فوضع
حبالاً على الماء فلما رأت الحبال فزعت فجالت جولة فولدن كلهن بلقاً إلا
شاءة واحدة ، فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام وهذا إسناد جيد رجاله ثقات . .
والله أعلم .
وقد تقدم عن نقل أهل الكتاب عن يعقوب عليه السلام حين فارق خاله لابان أنه
أطلق له ما يولد من غنمه بلقاً ، ففعل نحو ما ذكر عن موسى عليه السلام . .
فالله أعلم .
* * *
قال الله : " فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال
لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم
تصطلون * فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من
الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك فلما رآها
تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين *
اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك
برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين " .
تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما ، وقد يؤخذ هذا من قوله : " فلما قضى موسى الأجل " وعن مجاهد : أنه أكمل عشراً وعشراً بعدها .
وقوله : " وسار بأهله " أي من عند صهره ، زاعماً - فيما ذكره غير واحد من
المفسرين وغيرهم - أنه اشتاق إلى أهله ، فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة
مختف . فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه .
قالوا : واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة ، وتاهوا في طريقهم فلم يهتدوا إلى
السلوك في الدرب المألوف ، وجعل يورى زناده فلا يورى شيئاً ، واشتد الظلام
والبرد .
فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد ناراً تأجج في جانب الطور - وهو الجبل
الغربي منه عن يمينه فـ " قال لأهله امكثوا إني آنست نارا " وكأنه والله
أعلم رآها دونهم ، لأن هذه النار هي نور في الحقيقة ، ولا يصلح رؤيتها لكل
أحد : " لعلي آتيكم منها بخبر " أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق : " أو
جذوة من النار لعلكم تصطلون " فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في
ليلة باردة ومظلمة ، لقوله في الآية الأخرى : " وهل أتاك حديث موسى * إذ
رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد
على النار هدى " فدل على وجود الظلام وكونهم تاهوا عن الطريق ، وجمع الكل
في سورة النمل في قوله : " إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها
بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون " وقد أتاهم بخبر وأي خبر ، ووجد
عندها هدي وأي هدي ، واقتبس منها نوراً وأي نور ؟ !
يترقب " أي فخرج من مدينة مصر من فوره على وجهه لا يهتدي إلى طريق ولا
يعرفه ، قائلاً : " رب نجني من القوم الظالمين * ولما توجه تلقاء مدين قال
عسى ربي أن يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس
يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر
الرعاء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما
أنزلت إلي من خير فقير " .
يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر خائفاً يترقب ، أي يتلفت ،
وخشية أن يدركه أحد من قوم فرعون ، وهو لا يدري أين يتوجه ، ولا إلى أين
يذهب ، وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها .
" ولما توجه تلقاء مدين " أي اتجه له طريق يذهب فيه ، " قال عسى ربي أن
يهديني سواء السبيل " أي عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود . وكذا
وقع ، فقد أوصلته إلى مقصود وأي مقصود .
" ولما ورد ماء مدين " وكانت بئراً يسقون منها ، ومدين هي المدينة التي
أهلك الله فيها أصحاب الأيكة ، وهم قوم شعيب عليه السلام ، وقد كان هلاكهم
قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قولي العلماء .
ولما ورد الماء المذكور " وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم
امرأتين تذودان " أي تكفكفان عنهما غنمهما أن تختلط بغنم الناس .
وعند أهل الكتاب أنهن كن سبع بنات ، وهذا أيضاً من الغلط ، ولعلهن كن
سبعاً ، ولكن إنما كان تسقي اثنتان منهن ، وهذا الجمع ممكن إن كان ذاك
محفوظاً ، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتين " قال ما خطبكما قالتا لا
نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير " أي لا نقدر على ورود الماء إلا
بعد صدور الرعاء ، لضعفنا ، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره .
قال الله تعالى : " فسقى لهما " .
قال المفسرون : وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم . وضعوا على فم
البئر صخرة عظيمة ، فتجيء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام
الناس ، فلما كان ذلك اليوم ، جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده ، ثم استقى
لهما وسقى غنمهما . ثم رد الحجر كما كان . قال أمير المؤمنين عمر : وكان
لا يرفعه إلا عشرة ، وإنما استقى ذنوباً واحداً فكفاهما .
ثم تولى إلى الضل ، قالوا : وكان ظل شجرة من السمر وروى ابن جرير عن ابن
مسعود ، أنه رآها خضراء ترف " فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " .
قال ابن عباس : سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل وورق الشجر ، وكان
حافياً فسقطت نعلاً قدميه من الحفاء وجلس في الظل - وهو صفوة الله من خلقه
- وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه .
وإنه لمحتاج إلى شق تمرة .
قال عطاء بن السائب لما قال : " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " أسمع المرأة .
" فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت
لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين * قالت
إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين * قال إني أريد أن
أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك
وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين * قال ذلك بيني
وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل " .
لما جلس موسى عليه السلام في الظل وقال : " رب إني لما أنزلت إلي من خير
فقير " سمعته المرأتان فيما قيل ، فذهبتا إلى أبيهما فيقال : إنه استنكر
سرعة رجوعهما ، فأخبرتاه بما كان من أمر موسى عليه السلام . فأمر إحداهما
، أن تذهب إليه فتدعوه : " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " أي مشي
الحرائر ، " قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " صرحت له بهذا
لئلا يوهم كلامها ريبة . وهذا من تمام حيائها وصيانتها : " فلما جاءه وقص
عليه القصص " وأخبره خبره وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فراراً من
فرعونها . " قال " له ذلك الشيخ : " لا تخف نجوت من القوم الظالمين " أي
خرجت من سلطانهم فلست في دولتهم .
وقد اختلفوا في هذا الشيخ من هو ؟ فقيل هو شعيب عليه السلام . وهذا هو
المشهور عند كثيرين ، وممن نص عليه الحسن البصري ومالك بن أنس ، وجاء
مصرحاً به في حديث ، ولكن في إسناده نظر .
وصرح طائفة بأن شعيباً عليه السلام عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه ، حتى أدركه موسى عليه السلام هذا ، وتزوج بابنته .
وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الحسن البصري : أن صاحب موسى عليه السلام هذا
، اسمه شعيب ، وكان سيد الماء ، ولكن ليس بالنبي صاحب مدين . وقيل : إنه
ابن أخي شعيب ، وقيل : ابن عمه ، وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب ، وقيل :
رجل اسمه يثرون هكذا هو في كتب أهل الكتاب : يثرون كاهن مدين . أي كبيرها
وعالمها .
وقال ابن عباس وأبو عبيدة بن عبد الله : اسمه يثرون . زاد أبو عبيدة : وهو ابن أخي شعيب . وزاد ابن عباس : صاحب مدين .
والمقصود : أنه لما أضافه وأكرم مثواه ، وقص عليه ما كان من أمره بشره
بأنه قد نجا ، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها : " يا أبت استأجره " أي
لرعي غنمك ، ثم مدحته بأنه قوي أمين .
قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير
واحد : لما قالت ذلك ، قال لها أبوها : وما علمك بهذا ؟ فقال : إنه رفع
صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة ، وإنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال :
كوني من ورائي ، فإذا اختلف الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق .
قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : صاحب يوسف حين قال لامرأته : " أكرمي
مثواه " وصاحبة موسى حين قالت : " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي
الأمين " وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب .
" قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن
أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين
" .
استدل بهذه جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله ، على صحة ما إذا باعه أحد
هذين العبدين أو الثوبين ونحو ذلك ، أن يصح ، لقوله : " إحدى ابنتي هاتين
" .
وفي هذا نظر ، لأن هذه مراوضة لا معاقدة . . والله أعلم .
واستدل أصحاب أحمد على صحة الإستئجار بالطعمة والكقطة ، كما جرت به العادة
، واستأنسوا بالحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه مترجماً عليه في كتابه :
باب استئجار الأجير على طعام بطنه حدثنا محمد بن المصفى الحمصي ، حدثنا
بقية بن الوليد ، عن مسلمة بن على ، عن سعيد بن أبي أيوب ، عن الحارث بن
يزيد ، عن على بن رباح قال : سمعت عتبة ابن الندر يقول : كنا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقرأ : " طسم " حتى إذا بلغ قصة موسى ، قال : "
إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني سنين - أو عشر سنين - على عفة فرجه
وطعام بطنه " .
وهذا الحديث من هذا الوجه لا يصح ، لأن مسلمة بن على الخشني الدمشقي
البلاطي ضعيف عند الأئمة لا يحتج بتفرده ، ولكن قد روى من وجه آخر ، فقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكر ، حدثني
أبي لهيعة . ح . وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا
عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي
قال : سمعت عتبة بن الندر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن موسى عليه السلام آجر نفسه
بعفة فرجه وطعمة بطنه " .
ثم قال تعالى : " ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله
على ما نقول وكيل " يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت ، فأيهما
قضيت فلا عدوان علي والله على مقالتنا سامع وشاهد ، ووكيل علي وعليك ، ومع
هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين وأتمهما وهو العشر سنين كوامل تامة .
قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا
مروان بن شجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألني يهودي من
أهل الحيرة : أي الأجلين قضي موسى ؟ فقلت : لا أدرى حتى أقدم على حبر
العرب فأسأله . فقدمت فسألت ابن عباس فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، أن
رسول الله إذا قال فعل .
تفرد به البخاري من هذا الوجه ، وقد رواه النسائي في حديث الفتون ، كما سيأتي من
طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير به .
وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسي ، وابن أبي حاتم . عن أبيه .
كلاهما عن الحميدي ، عن سفيان بن عيينة ، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي
يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : " سألت جبريل أي الأجلين قضي موسى ؟ قال : أتمهما وأكلهما
" .
وإبراهيم هذا غير معروف إلا بهذا الحديث . وقد رواه البزار عن أحمد بن
أبان القرشي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن أعين ، عن الحكم بن أبان
، عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره .
وقد رواه سنيد عن حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مرسلاً .
أن رسول الله سأل عن ذلك جبريل فسأل جبريل إسرافيل ، فسأل إسرافيل الرب عز وجل فقال : أبرها وأوفاهما .
وبنحوه رواه ابن أبي حاتم من حديث يوسف بن سرج مرسلاً .
ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أوفاهما وأتمهما .
وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران الجوني ، وهو
ضعيف ، عن أبيه عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أوفاهما وأبرهما قال :
وإن سئلت أي المرأتين تزوج ؟ فقال الصغرى منهما .
وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن
يزيد الحضرمي ، عن على بن رباح ، عن عتبة بن الندر ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : " إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه وطعام بطنه " فلما وفي
الأجل قيل : يا رسول الله . . أي الأجلين ؟ ،قال : أبرهما وأوفاهما .
فلما أراد فراق شعيب - سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما
يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت غنمه ، من قالب لون من ولد ذلك العام ، وكانت
غنمه سوداء حساناً ، فانطلق موسى عليه السلام إلى عصا قسمها من طرفها ثم
وضعها في أدني الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى عليه السلام بإزاء
الحوض ، فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة ، قال : فأتأمت وألبنت
ووضعت كلها في قوالب ألوان ، إلا شاة أو شاتين ، ليس فيها فشوش ، ولا ضبوب
، ولا عزوز ، ولا ثعول ، ولا كموش تفوت الكف . قال النبي صلى الله عليه
وسلم : " لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية " .
قال ابن لهيعة : الفشوش : واسعة الشخب ، والضبوب : طويلة الضرع تجره .
والعزوز : ضيقة الشخب . والثعول : الصغيرة الضرع كالحلمتين ، والكموش :
التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره .
وفي صحة رفع هذا الحديث نظر . وقد يكون موقوفاً كما قال ابن جرير : حدثنا
محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس
بن مالك قال : لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ،
قال له صاحبه : كل شاة ولدت على غير لونها فلك ولدها ، فعمد موسى فوضع
حبالاً على الماء فلما رأت الحبال فزعت فجالت جولة فولدن كلهن بلقاً إلا
شاءة واحدة ، فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام وهذا إسناد جيد رجاله ثقات . .
والله أعلم .
وقد تقدم عن نقل أهل الكتاب عن يعقوب عليه السلام حين فارق خاله لابان أنه
أطلق له ما يولد من غنمه بلقاً ، ففعل نحو ما ذكر عن موسى عليه السلام . .
فالله أعلم .
* * *
قال الله : " فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال
لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم
تصطلون * فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من
الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك فلما رآها
تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين *
اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك
برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين " .
تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما ، وقد يؤخذ هذا من قوله : " فلما قضى موسى الأجل " وعن مجاهد : أنه أكمل عشراً وعشراً بعدها .
وقوله : " وسار بأهله " أي من عند صهره ، زاعماً - فيما ذكره غير واحد من
المفسرين وغيرهم - أنه اشتاق إلى أهله ، فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة
مختف . فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه .
قالوا : واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة ، وتاهوا في طريقهم فلم يهتدوا إلى
السلوك في الدرب المألوف ، وجعل يورى زناده فلا يورى شيئاً ، واشتد الظلام
والبرد .
فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد ناراً تأجج في جانب الطور - وهو الجبل
الغربي منه عن يمينه فـ " قال لأهله امكثوا إني آنست نارا " وكأنه والله
أعلم رآها دونهم ، لأن هذه النار هي نور في الحقيقة ، ولا يصلح رؤيتها لكل
أحد : " لعلي آتيكم منها بخبر " أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق : " أو
جذوة من النار لعلكم تصطلون " فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في
ليلة باردة ومظلمة ، لقوله في الآية الأخرى : " وهل أتاك حديث موسى * إذ
رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد
على النار هدى " فدل على وجود الظلام وكونهم تاهوا عن الطريق ، وجمع الكل
في سورة النمل في قوله : " إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها
بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون " وقد أتاهم بخبر وأي خبر ، ووجد
عندها هدي وأي هدي ، واقتبس منها نوراً وأي نور ؟ !
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى